الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: البرهان في علوم القرآن (نسخة منقحة)
وَجَعَلَ مِنْهُ الْمُبَرِّدُ قَوْلَهُ تعالى: {ردف لكم}، وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّهُ ضُمِّنَ (رَدِفَ) مَعْنَى: اقْتَرَبَ كقوله: {اقترب للناس حسابهم}.وَاخْتُلِفَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لكم ويهديكم}، فَقِيلَ: زَائِدَةٌ، وَقِيلَ: لِلتَّعْلِيلِ وَالْمَفْعُولُ مَحْذُوفٌ، أَيْ يُرِيدُ اللَّهُ التَّبْيِينَ وَلِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ أَيْ فَيَجْمَعُ لَكُمْ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ.وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأُمِرْتُ لِأَنْ أكون أول المسلمين}، فِي سُورَةِ الزُّمَرِ: لَكَ أَنْ تَجْعَلَ اللَّامَ مَزِيدَةً مِثْلَهَا فِي (أَرَدْتُ لِأَنْ أَفْعَلَ) وَلَا تُزَادُ إِلَّا مَعَ (أَنْ) خَاصَّةً دُونَ الِاسْمِ الصَّرِيحِ كَأَنَّهَا زِيدَتْ عِوَضًا مِنْ تَرْكِ الْأَصْلِ إِلَى مَا يَقُومُ مَقَامَهُ، كَمَا أَتَتِ السِّينُ فِي (أَسْطَاعَ) يَعْنِي بِقَطْعِ الْهَمْزَةِ عِوَضًا مِنْ تَرْكِ الْأَصْلِ الَّذِي هُوَ (أَطُوعُ) وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذَا مَجِيئُهُ بِغَيْرِ لَامٍ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وأمرت أن أكون من المسلمين}. انْتَهَى.وَزِيَادَتُهَا فِي (أَرَدْتُ لِأَنْ أَفْعَلَ) لَمْ يَذْكُرْهُ أَكْثَرُ النَّحْوِيِّينَ وَإِنَّمَا تَعَرَّضُوا لَهَا فِي إعراب: {يريد الله ليبين لكم}.وَتُزَادُ لِتَقْوِيَةِ الْعَامِلِ الضَّعِيفِ إِمَّا لِتَأَخُّرِهِ نَحْوَ: {هدى ورحمة للذين هم لربهم يرهبون}، ونحو: {إن كنتم للرؤيا تعبرون}.أَوْ لِكَوْنِهِ فَرْعًا فِي الْعَمَلِ، نَحْوَ: {مُصَدِّقًا لما معهم}، {فعال لما يريد}، {نزاعة للشوى}.وَقِيلَ مِنْهُ: {إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ}، وَقِيلَ: بَلْ يَتَعَلَّقُ بِمُسْتَقَرٍّ مَحْذُوفٍ صِفَةً لِعَدُوٍّ وَهِيَ لِلِاخْتِصَاصِ.وَقَدِ اجْتَمَعَ التَّأَخُّرُ وَالْفَرْعِيَّةُ، فِي نحو: {وكنا لحكمهم شاهدين}.وأما قوله تعالى: {نذيرا للبشر}، فَإِنْ كَانَ (نَذِيرًا) بِمَعْنَى الْمُنْذِرِ، فَهُوَ مِثْلَ: {فعال لما يريد}، وَإِنْ كَانَ بِمَعْنَى الْإِنْذَارِ فَاللَّامُ مِثْلُهَا فِي: (سُقْيًا لِزَيْدٍ).وَقَدْ تَجِيءُ اللَّامُ لِلتَّوْكِيدِ بَعْدَ النَّفْيِ وَتُسَمَّى لَامَ الْجُحُودِ وَتَقَعُ بَعْدَ (كَانَ) مثل: {وما كان الله ليعذبهم}، اللَّامُ لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ كَالْبَاءِ الدَّاخِلَةِ فِي خَبَرِ (لَيْسَ)، وَمَعْنَى قَوْلِهِمْ: (إِنَّهَا لِلتَّأْكِيدِ) أَنَّكَ إِذَا قُلْتَ: مَا كُنْتُ أَضْرِبُكَ. بِغَيْرِ لَامٍ، جَازَ أَنْ يَكُونَ الضَّرْبُ مِمَّا يَجُوزُ كَوْنُهُ فَإِذَا قُلْتَ مَا كُنْتُ لِأَضْرِبَكَ فَاللَّامُ جَعَلَتْهُ بِمَنْزِلَةِ مَا لَا يَكُونُ أَصْلًا.وَقَدْ تَأْتِي مُؤَكَّدَةً فِي مَوْضِعٍ وَتُحْذَفُ فِي آخَرَ لِاقْتِضَاءِ الْمَقَامِ ذَلِكَ.وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تبعثون} فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ أَكَّدَ إِثْبَاتَ الْمَوْتِ الَّذِي لَا رَيْبَ فِيهِ تَأْكِيدَيْنِ وَأَكَّدَ إِثْبَاتَ الْبَعْثِ الَّذِي أَنْكَرُوهُ تَأْكِيدًا وَاحِدًا وَكَانَ الْمُتَبَادَرُ الْعَكْسَ لِأَنَّ التَّأْكِيدَ إِنَّمَا يَكُونُ حَيْثُ الْإِنْكَارُ لَكِنْ فِي النَّظْمِ وُجُوهٌ:أَحَدُهَا: أَنَّ الْبَعْثَ لَمَّا قَامَتِ الْبَرَاهِينُ الْقَطْعِيَّةُ عَلَيْهِ صَارَ الْمُنْكِرُ لَهُ كَالْمُنْكِرِ لِلْبَدَهِيَّاتِ فَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى تَأْكِيدٍ وَأَمَّا الْمَوْتُ فَإِنَّهُ وَإِنْ أَقَرُّوا بِهِ لَكِنْ لَمَّا لَمْ يَعْلَمُوا مَا بَعْدَهُ نُزِّلُوا مَنْزِلَةَ مَنْ لَمْ يُقِرَّ بِهِ فَاحْتَاجَ إِلَى تَأْكِيدِ ذَلِكَ لِأَنَّهُ قَدْ يُنَزَّلُ الْمُنْكِرُ كَغَيْرِ الْمُنْكِرِ إِذَا كَانَ معه مالو تَأَمَّلَهُ ارْتَدَعَ مِنَ الْإِنْكَارِ. وَلَمَّا ظَهَرَ عَلَى الْمُخَاطَبِينَ مِنَ التَّمَادِي فِي الْغَفْلَةِ وَالْإِعْرَاضِ عَنِ العمل لِمَا بَعْدَهُ وَالِانْهِمَاكِ فِي الدُّنْيَا وَهِيَ مِنْ أَمَارَاتِ إِنْكَارِ الْمَوْتِ فَلِهَذَا قَالَ: (مَيِّتُونَ) وَلَمْ يَقُلْ: تَمُوتُونَ وَإِنَّمَا أَكَّدَ إِثْبَاتَ الْبَعْثِ الَّذِي أَنْكَرُوهُ تَأْكِيدًا وَاحِدًا لِظُهُورِ أَدِلَّتِهِ الْمُزِيلَةِ لِلْإِنْكَارِ إِذَا تَأَمَّلُوا فِيهَا وَلِهَذَا قِيلَ: تُبْعَثُونَ عَلَى الْأَصْلِ، وَهُوَ الِاسْتِقْبَالُ بِخِلَافِ (تَمُوتُونَ).الثَّانِي: أَنَّ دُخُولَ اللَّامِ عَلَى مَيِّتُونَ أَحَقُّ لِأَنَّهُ تَعَالَى يَرُدُّ عَلَى الدَّهْرِيَّةِ الْقَائِلِينَ بِبَقَاءِ النَّوْعِ الْإِنْسَانِيِّ خَلَفًا عَنْ سَلَفٍ وَقَدْ أَخْبَرَ تَعَالَى عَنِ الْبَعْثِ فِي مَوَاضِعَ مِنَ الْقُرْآنِ وَأَكَّدَهُ وَكَذَّبَ مُنْكِرَهُ كَقَوْلِهِ: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يبعثوا قل بلى وربي لتبعثن} قَالَهُ الشَّيْخُ تَاجُ الدِّينِ بْنُ الْفِرْكَاحِ.الثَّالِثُ: أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْعَطْفُ يَقْتَضِي الِاشْتِرَاكَ فِي الْحُكْمِ اسْتُغْنِيَ بِهِ عَنْ إِعَادَةِ لَفْظِ اللَّامِ وَكَأَنَّهُ قِيلَ: (لَتُبْعَثُونَ) وَاسْتُغْنِيَ بِهَا فِي الثَّانِي لِذِكْرِهَا فِي الْأَوَّلِ.الرَّابِعُ: قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ بُولِغَ فِي تَأْكِيدِ الْمَوْتِ تَنْبِيهًا لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَكُونَ الْمَوْتُ نُصْبَ عَيْنَيْهِ وَلَا يَغْفُلُ عَنْ تَرَقُّبِهِ فَإِنَّ مَآلَهُ إِلَيْهِ فَكَأَنَّهُ أُكِّدَتْ جُمْلَتُهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ لِهَذَا الْمَعْنَى لِأَنَّ الْإِنْسَانَ فِي الدُّنْيَا يَسْعَى فِيهَا غَايَةَ السَّعْيِ كَأَنَّهُ مُخَلَّدٌ وَلَمْ يُؤَكِّدْ جُمْلَةَ الْبَعْثِ إِلَّا بِـ: (إِنَّ) لِأَنَّهُ أُبْرِزَ بِصُورَةِ الْمَقْطُوعِ بِهِ الَّذِي لَا يُمْكِنُ فِيهِ نِزَاعٌ وَلَا يَقْبَلُ إِنْكَارًا.قُلْتُ: هَذِهِ الْأَجْوِبَةُ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى وَأَمَّا الصِّنَاعَةُ فَتُوجِبُ مَا جَاءَتِ الْآيَةُ الشَّرِيفَةُ عَلَيْهِ وَهُوَ حَذْفُ اللَّامِ فِي (تُبْعَثُونَ) لِأَنَّ اللَّامَ تُخَلِّصُ الْمُضَارِعَ لِلْحَالِ فَلَا يُجَاءُ بِهِ مَعَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ لِأَنَّهُ مُسْتَقْبَلٌ وَلِأَنَّ تُبْعَثُونَ عَامِلٌ فِي الظَّرْفِ الْمُسْتَقْبَلِ.وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ} فَيُمْكِنُ تَأْوِيلُهَا بِتَقْدِيرِ عَامِلٍ.وَنَظِيرُ هَذَا آيَةُ الْوَاقِعَةِ وَهِيَ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {لو نشاء لجعلناه حطاما فظلتم تفكهون}. وَقَالَ سُبْحَانَهُ فِي الْمَاءِ: {لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أجاجا} بِغَيْرِ لَامٍ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ:أَحَدُهَا: أَنَّ صَيْرُورَةَ الْمَاءِ مِلْحًا أَسْهَلُ وَأَكْثَرُ مِنْ جَعْلِ الْحَرْثِ حُطَامًا إِذِ الْمَاءُ الْعَذْبُ يَمُرُّ بِالْأَرْضِ السَّبْخَةِ فَيَصِيرُ مِلْحًا فَالتَّوَعُّدُ بِهِ لَا يَحْتَاجُ إِلَى تَأْكِيدٍ وَهَذَا كَمَا أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا تَوَعَّدَ عَبْدَهُ بِالضَّرْبِ بِعَصَا وَنَحْوِهِ لَمْ يَحْتَجْ إِلَى تَوْكِيدٍ وَإِذَا تَوَعَّدَ بِالْقَتْلِ احْتَاجَ إِلَى تَأْكِيدٍ.وَالثَّانِي: إِنَّ جَعْلَ الْحَرْثِ حُطَامًا قَلْبٌ لِلْمَادَّةِ وَالصُّورَةِ وَجَعْلَ الْمَاءِ أُجَاجًا قَلْبٌ لِلْكَيْفِيَّةِ فَقَطْ وَهُوَ أَسْهَلُ وَأَيْسَرُ.الثَّالِثُ: أَنَّ (لَوْ) لَمَّا كَانَتْ دَاخِلَةً عَلَى جُمْلَتَيْنِ مُعَلِّقَةً ثَانِيَتَهُمَا بِالْأُولَى تَعْلِيقَ الْجَزَاءِ (بِالشَّرْطِ) أَتَى بِاللَّامِ عَلَمًا عَلَى ذَلِكَ ثُمَّ حَذَفَ الثَّانِي للعلم بها لأن الشيء إذا علم (وشهر موقعه وصار مألوفا ومأنوسا به) لم يبال بإسقاطه عن اللفظ (استغناء بمعرفة السامع) وَيُسَاوِي لِشُهْرَتِهِ حَذْفَهُ وَإِثْبَاتَهُ مَعَ مَا فِي حَذْفِهِ مِنْ خِفَّةِ اللَّفْظِ وَرَشَاقَتِهِ لِأَنَّ تَقَدُّمَ ذِكْرِهَا- وَالْمَسَافَةُ قَصِيرَةٌ- يُغْنِي عَنْ ذِكْرِهَا ثَانِيًا.الرَّابِعُ: أَنَّ اللَّامَ أُدْخِلَتْ فِي آيَةِ الْمَطْعُومِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُ يُقَدَّمُ عَلَى أَمْرِ الْمَشْرُوبِ وَأَنَّ الْوَعِيدَ بِفَقْدِهِ أَشَدُّ وَأَصْعَبُ مِنْ قِبَلِ أَنَّ الْمَشْرُوبَ إِنَّمَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ تَبَعًا لِلْمَطْعُومِ ولهذا قدمت آيَةِ الْمَطْعُومِ عَلَى آيَةِ الْمَشْرُوبِ ذَكَرَهَا وَالَّذِي قَبْلَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ.وَمِنْ ذَلِكَ حَذْفُ اللَّامِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لله والرسول} وَإِثْبَاتُهَا بَعْدَ قَوْلِهِ: {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} الْآيَةَ. وَالْجَوَابُ أَنَّكَ إِذًا عَطَفْتَ عَلَى مَجْرُورٍ..
|